السبت، 7 ديسمبر 2013

انتفاضة الحجارة

انتفاضة الحجارة

عام 1987 عام مهم في حياتي فقد تخرجت من الجامعة في شهر مارس وتزوجت في شهر سبتمبر ومع هذين الحدثين السعيدين انتهى

ذلك العام بحدث تاريخي وضع الشعب الفلسطيني على قمة اهتمامات العالم بأسره ففي الثامن من ديسمبر عام 1987 اندلعت الانتفاضة الشعبية في الأراضي الفلسطينية المحتلة و كانت الشرارة من مخيم جباليا حيث تصدى أبناء شعبنا البواسل في هذا المخيم لقوات الاحتلال الذين حاولوا تفريق المواطنين الغاضبين أثناء تشييعهم لجنازة أربعة عمال قضوا دهسا بالقرب من حاجز إيرز أثناء توجههم للعمل داخل الخط الأخضر أو ما يسمى إسرائيل.فقد قام سائق شاحنة إسرائيل بسحق سيارة تقل هؤلاء العمال بشاحنته مما أدى إلى وفاة أربعة عمال و إصابة عدد أخر بجروح خطيرة. واجه شبابنا و أطفالنا وشيوخنا ونسائنا الاحتلال بقذفه بالحجارة ومن هنا سميت الانتفاضة الأولى بانتفاضة الحجارة إذ لم يستخدم السلاح في المواجهات و على مدى سنوات الانتفاضة إلا بنسبة بسيطة.
لم يخطر ببالي كما الجميع و حتى القادة الإسرائيليين أن هذه المواجهات سوف تستمر طويلا بحكم ما ساد من أوضاع هادئة في الأراضي المحتلة على مدار سنوات عديدة امتدت من منتصف السبعينات إلى هذا التاريخ ( 8/12/1987 ) فقد حصلت مناوشات عديدة ومظاهرات في جميع المدن الفلسطينية المحتلة في عدة مناسبات من أهمهما مجزرة صبرا و شاتيلا التي ارتكبها المجرم شارون في لبنان عام 1982كنت حينها طالبا في جامعة بيرزيت و لكن سرعان ما كانت هذه الأحداث تهدأ. أضف على أن نسبة كبيرة من أبناء شعبنا كانوا يعملون في داخل الخط الأخضر وهذا كان مطمئنا للعدو الذي مارس ويمارس العديد من سياسات القمع و التمييز بحق هؤلاء العمال و لكن في ظل غياب الدعم العربي لهم كان لابد من تحمل الصعاب و لا أخفي عليكم تأثر نسبة كبيرة من شبابنا بالمجتمع الإسرائيلي تأثرا سلبيا في كثير من أسلوب حياتهم وطريقة تفكيرهم.
هذا الحدث العفوي أقصد الانتفاضة لم يحدث من فراغ فالتراكمات التي حملها شعبنا منذ تهجيره عام 1948 و احتلال باقي الأراضي الفلسطينية عام 1967 وما مر بعدها من أحداث و في ظل تخاذل عربي و تعمية دولية وتحييد لمنظمة التحرير الفلسطينية ونفي قياداتها إلى تونس وتردي الأوضاع الاقتصادية أنفجر البركان بأيدي جيل من الشبان و الأطفال لم يعاصروا كل ما ذكرت من أحداث جيل لم ينسى هويته و الأهم قضيته .بدأت أمورنا اليومية تتغير تباعا لمجريات الأحداث حيث اختفت العديد من المظاهر التي سبقت الانتفاضة مثل حفلات الأفراح في الشوارع والصالات والسهر في خارج المنزل.لقد بدأت كغيري من الناس بالتعود على نمط مختلف من الأمور التي كانت في معظمها قصرية كحظر التجول الليلي اليومي الذي فرضته قوات الاحتلال و الإضرابات الشهرية و الإضرابات التي تنسب لحدث معين في تاريخ شعبنا والتي فرضت ممن تولوا قيادة الانتفاضة.

هذا الحدث وضع المنطقة برمتها على مفرق طرق فالعالم يرى أطفال يواجهون الآلة العسكرية بحجارتهم و من هنا بدأت التحركات من المؤسسات الدولية و على رأسها الأمم المتحدة التي أصدرت بيانا بخصوص الممارسات الصهيونية ضد الأطفال العزل وجاء الرد الإسرائيلي بمزيد من العنف "سنكسر أيديهم و أرجلهم لو توجب ذلك" و بالفعل تناقلت وسائل الإعلام صور لجنود الاحتلال يقومون بضرب فتي فلسطيني بالحجارة في نابلس كان منظرا مرعبا ترك في نفسي هاجسا أن هذا ممكن أن يحصل معي أو مع أي أحد فقد تخطى العدو كل الخطوط الحمراء بممارساته التعسفية من فرض حظر التجول وقيود على تنقل العمال داخل الخط الأخضر إلا بتصاريح خاصة وأجبر المواطنين على تغيير بطاقات الهوية.
 مع استمرار المواجهات قامت التنظيمات الفلسطينية في الداخل بتولي قيادة هذه الانتفاضة المباركة كل على حدة مع العلم بان التسمية لهذه الثورة الشعبية بالانتفاضة يعود لحركة حماس في بيانها الأول في 11/12/1987 ثم بعد ذلك تم العمل بشكل موحد من قبل التنظيمات الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية القيادة الوطنية الموحدة التي أشرفت عل إدارة هذه الانتفاضة و إصدار المنشورات و الكتابة على الجدران لإطلاع الناس على ما يدور من أحداث و ما يستجد من فعاليات يومية من إضرابات " كان الثامن من كل شهر إضراب لذكرى الانتفاضة "و دعوات للتظاهر ووقف العمل داخل الخط الأخضر و مطالبة الموظفين الحكوميين بالاستقالة و مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ( وهنا أقف عند نقطة لم تريحني برغم التوعية لضرورة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية إلا أن الأسلوب الذي إستخدم لردع التجار وحثهم على المقاطعة وصل في بعض الأحيان لحد حرق محلات بأكملها بل وصل الأمر لحرق منتجات بعينها كالموز على بسطات الباعة في الأسواق ) لم يكن في ذلك الوقت أي إذاعة أو تلفزيون فلسطيني فكنا نتابع الأخبار و المستجدات عبر هذه المنشورات و ما يكتب على الجدران التي كثيرا ما أجبرت أنا وأفراد عائلتي وجيراني على مسحها بالطلاء الأبيض بالقوة من قبل جنود الاحتلال.
 وبدأ تفاعل المنظمة في الخارج وعلى الأخص حركة فتح و تولى القائد أبو جهاد خليل الوزير رحمه الله إدارة الانتفاضة من تونس وكانت بيانات الانتفاضة تتوج بمقولته الشهيرة "لا صوت يغلو فوق صوت الانتفاضة" وليس لوقت طويل فقد نالته أيدي الموساد الإسرائيلي و قامت باغتياله في منزله بتونس في 16/4/1988 بعد وقت قصير من اندلاع الانتفاضة. في الخامس من يونيو 1988 ذكري حرب الايام الستة رزقت بطفلتي الأولى كان يوم إضراب و مع ذلك كان يوما سعيدا لي ولزوجتي و جميع أفراد الأسرة. 
في الخامس عشر من نوفمبر 1988 فوجئنا عبر وسائل الإعلام بإعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني من تونس 1988 اعترفت 105 دول بهذا الاستقلال وتم فتح 70 سفارة للمنظمة في دول مختلفة ورغم أحزاننا احتفلنا بهذا الحدث المهم.
ومع تواصل الانتفاضة و انتشارها في جميع مدن الأرض المحتلة في الضفة الغربية و غزة تحرك أبناء شعبنا في الداخل (عرب 48 ) لدعم إخوانهم في الأراضي المحتلة ولم تقف مشاركتهم على المظاهرات بل قاموا بتقديم المساعدات المادية من ملابس ومواد تموينية.
في يناير 1989 حصلت على وظيفة في دائرة الاشغال العامة وهي مؤسسة حكومية تدار من قبل الإدارة المدنية الإسرائيلية مع العلم بأنني كنت أعمل سابقا و بعد تخرجي من الجامعة في أحد مصانع الخياطة التي كانت كغيرها من المصانع تجهز الملبوسات لشركات إسرائيلية و لكن في ظل المقاطعة تم إقفال معظم هذه المصانع وفقد العديد من العاملين في هذا المجال وغيرها من المجالات الأخرى مصدر دخلهم.وكغيري من الموظفين اندمجت في العمل رغم اضطراري للتعامل المباشر مع المسئولين الإسرائيليين ومن هنا أتقنت اللغة العبرية مع العلم أنني تعلمت القراء ة و الكتابة ل اللغةالعبرية في المدرسة الإعدادية حيث كانت أحد مقررات الدراسة في المدارس الحكومية زمن الاحتلال.
ازداد العنف الإسرائيلي و أعتقل الآلاف من الفلسطينيين وسقط العديد من أبناء شعبنا شهداء على أيدي قوات الاحتلال والمستوطنين وارتكبت المجازر بأيدي الصهاينة الحاقدين ففي 20/5/1990 قام متطرف إسرائيلي بقتل 7 عمال فلسطينيين و جرح 10 آخرين في منطقة ريشون لتسيون (عيون قارة ) اندلعت بعدها مواجهات عنيفة في قطاع غزة أدت لاستشهاد 12 فلسطينيا و العديد من الجرحى.وفي النصف الثاني من عام 1990 رزقت بطفلتي الثانية.
وبالتوازي مع هذا العنف الإسرائيلي كان هناك ضحايا فلسطينيين قتلوا بأيدي فلسطينية على خلفية التعامل مع الاحتلال ظاهرة أثارت جدلا في الشارع الفلسطيني على ما مدى دقة الحكم على هؤلاء الأشخاص و أخذ كل تنظيم على عاتقه بتنفيذ مثل هذه الإعدامات والتي ثبت فيما بعد أن كثير من الضحايا قضوا بدون وجه حق.
و مما زاد الطين بلة غزو العراق للكويت ووقوف ياسر عرفات بجانب صدام حسين مما وضعنا كفلسطينيين في موقف لا نحسد عليه.وتكالبت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبمشاركة عدة دول عربية على العراق وبدأت الحرب لتحرير الكويت و فرض الاحتلال طوق شامل على الضفة الغربية و قطاع غزة وجابت الدبابات الإسرائيلية الشوارع وسط تهديد الرئيس العراقي صدام حسين بضرب إسرائيل ومُنعنا من الذهاب إلى العمل و مكثنا في البيوت كان همنا سماع الأخبار عبر المذياع " مذياع جدي رحمه الله الذي لم يولف إلا على محطة ال بي بي سي بالعربية " و تلفزيون إسرائيل. كان هناك تخوف من استعمال الأسلحة الكيماوية و قام الناس بشراء النايلون و الأشرطة اللاصقة لعمل غرف عازلة داخل منازلهم و شراء المواد الغذائية. نفّذ صدام حسين وعده وضرب إسرائيل بصواريخ سكود و لجأ الإسرائيليين للملاجئ وقفزنا نحن إلى أسطح منازلنا لرؤية الصواريخ كان هناك شعور بالفرح لدي و لدى جميع من حولي بهذا الحدث إسرائيل تضرب بصواريخ ...............وهتفنا كما هتف الجميع في كل مرة يسقط صاروخ عراقي على إسرائيل :" يا صدام ياحبيب أضرب أضرب تل أبيب" لازلت أذكر في إحدى مرات سقوط هذه الصواريخ كنت أنا و عائلتي نشاهد تلفزيون إسرائيل و كانت المذيعة تتلو نشرة الأخبار و فجأة دوت صفارات الإنذار لا تتخيلوا منظر المذيعة كيف صار لقد فرت من أمام الكاميرا مذعورة ضحكنا كثيراللمشهد.
انتهت الحرب وبعيدا عن منظمة التحرير دعت الولايات المتحدة قيادات الأراضي المحتلة في الضفة و غزة وعلى رأسهم الدكتور حيدر عبد الشافي و فيصل الحسيني وبحضور ممثلين عن 40 دولة بالإضافة إلى إسرائيل إلى مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991 الذي مني بفشل ذريع بعد عدة شهور من المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني و الإسرائيلي.
بدأت الانتفاضة تفقد زخمها الشعبي وبرز تناحر داخلي بين حركة فتح و حماس و تنامى العمل العسكري للتنظيمات الفلسطينية ضد الاحتلال و الحق خسائر في صفوف العدو ولكن بنسبة ضئيلة لحجم الخسائر في الجانب الفلسطيني.
وفي ديسمبر 1992 أقدمت سلطات الاحتلال على إبعاد 416 ناشطا فلسطينيا من حركتي حماس و الجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان عادوا بعدها إلى أرض الوطن على مراحل لقد باتت سابقة خطيرة و نوع جديد من العقاب لشعبنا.
يناير 1993 رزقت بطفلتي الثالثة و الحمد لله و استمرت الحياة بوتيرة مملة و روتينية وفي فبراير من نفس العام وبينما كنت في عملي جاء أحد جيراني ليخبرني ضرورة القدوم معه إلى البيت ذهبنا كان الشارع يعج بالجيران و الأقارب الكل حزين أصوات بكاء في كل مكان إنه أخي حيدر أصيب بطلق ناري في مؤخرة رأسه أثناء عمله في ورشة بناء في منزل جارنا ونقل لمستشفى الشفاء ذهبت إلى هناك حيث استقبلني أحد ضباط الإحتلال و أبلغني بأنهم بانتظار طائرة هليوكبتر لنقله إلى إحدى المستشفيات الإسرائيلية حيث توفى هناك قمت بزيارته أخبرني الطبيب صعوبة و ضعه لقد كان في حالة موت سريري لقد فجعنا جميعا وحزنا كثيرا لكنه أمر الله وتوالت الأحزان بوفاة والدي بعده بأقل من شهرين رحمهم الله جميعا رغم ذلك تستمر الحياة لم أنقم بسبب حزني على الانتفاضة فموت أبناء شعبنا وتضحياتهم لم و لن تذهب سُدى.  
في هذه الأثناء قامت منظمة التحرير بمفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة بعد فشل مؤتمر مدريد وبتوازي مع هذه المفاوضات كانت هناك مفاوضات سرية تجري في إحدى الدول الأوربية انتهت باتفاقية أوسلو أو ما عُرف بغزة أريحا أولا أدت إلى قدوم السلطة الفلسطينية إلى غزة في مايو 1994 تبعه دخول الرئيس ياسر عرفات إلى غزة في شهر يوليو من العام نفسه.

انتهت انتفاضة الحجارة وسط استهجان شعبي من إنجازات لم تأت إلا بالفتات للشعب الفلسطيني.

لا يسعني إلا المرور على ذكرى أحباء على قلبي توفوا في فترة انتفاضة الحجارة:
رحم الله صديقي و ابن عمي الشهيد جمال أبو شرخ ( و نحسبه كذلك عند الله عز وجل ) الذي قتل برصاص الاحتلال
رحم الله عمي الشهيد صهيب أبو شرخ ( و نحسبه كذلك عند الله عز وجل ) الذي قتل غدرا بعد حرب الخليج
رحم الله جدتي التي ماتت بعد وفاة عمي بقليل
رحم الله أخي الشهيد حيدر ( و نحسبه كذلك عند الله عز وجل ) الذي قتل برصاص الاحتلال 28/2/1993
رحم الله أبي الذي مات بتاريخ 16/4/1993
رحم الله شهدائنا الأبرار ( و نحسبهم كذلك عند الله عز وجل )


انتفاضة الحجارة ( إحصائية )
1087 شهيد فلسطيني على يد جيش الاحتلال
75 شهيدا فلسطينيا على أيدي مدنيين إسرائيليين
1000 فلسطيني قضوا على أيدي فلسطينية
آلاف الجرحى الفلسطينيين و المعتقلين
160 قتيل إسرائيلي
3100 جريح بين عسكري و مدني إسرائيلي
خسائر اقتصادية فادحة لدى الجانبين الفلسطيني و الإسرائيلي









ليست هناك تعليقات: